“تسونامي” القرصنة يُجهز على حقوق الفنانين بالمغرب
لم يأت تصنيف المغرب كثاني قراصنة العالم الرقمي من فراغ، فجولة صغيرة في أسواق البلاد ومواقع الانترنت تؤكد أن المغربي لم يعد يعرف السينما والموسيقى على وجه الخصوص إلا من خلال أقراص بخسة يشتريها من باعة رأوا في القرصنة مورد رزق جديد لن تطأه أرجل الشركات الرأسمالية، وبواسطة مواقع إلكترونية مؤثثة بصور الممثلين والمغنيين تقدم خدمة مجانية للمبحر في ثناياها، قصد تحميل ما لذ وطاب من الأفلام والأغاني.
وبين مئات المواقع الإلكترونية المغربية تنشط مواقع تعتمد بالكامل على قرصنة المصنفات الفنية، ونظرا لأن الصناعة السينمائية المغربية ليست بذلك الزخم الكبير الذي يوفر مادة دسمة للقراصنة، فقد اهتدت هذه المواقع إلى الموسيقى التي تجلب من خلالها آلاف الزوار يوميا، خاصة الشباب منهم الذين انغمسوا في التحميل هوايتهم المفضلة، وهو ما تؤكده عدد من الإحصائيات العالمية التي تؤكد نصيب المغرب الوافر من عمليات التحميل، خاصة التحميل الغير القانوني للألبومات الغنائية، وهي القضية التي تشكل منطلق هذا التحقيق الذي يروم الكشف عن قرصنة المقطوعات الغنائية في بعض المواقع المغربية.
ما هي هذه المواقع؟ من يقف وراءها؟ كيف تعمل؟ هل يتضرر فعلا الفنان المغربي من قرصنة أغانيه على الانترنت أم أنها توفر له فرصة الانتشار؟ هل تحصد هذه المواقع أرباحا مهمة تجعلها تلتهم لوحدها كعكة المقطوعة الغنائية؟ هل صحيح أن غياب قانون خاص بالقرصنة على الانترنت بالمغرب هو ما يوفر لها مساحة واسعة للاشتغال؟ أم أن ما يسري على قرصنة الأقراص يسري كذلك على المواقع الإلكترونية؟ هل يمكن للمغرب أن يتخلص من سمعته السيئة في مجال القرصنة كي يبني مجتمعا إلكترونيا يحترم حقوق المؤلف؟
أهم المواقع الغنائية المغربية
في جولة عميقة على أهم ألف موقع يشاهد بالمغرب، نجد من بينها مجموعة من المواقع المغربية ذات الصبغة الغنائية، إضافة لمجموعة من المواقع الجزائرية التي تقدم الأغاني المغربية والعشرات من المواقع الأخرى التي تحتل مراتب متأخرة في ترتيب المواقع بالمغرب حسب محرك الأليكسا الشهير.
وأغلب من يدير هذه المواقع هم شباب يبحث عن ربح بعض المال من إعلانات جوجل، ليجد أن الحل هو إنشاء موقع للموسيقى يجذب الآلاف من الزوار يوميا، وجل هؤلاء الشباب لا يكشفون عن هوياتهم الأصلية، لكونهم يدركون بشكل أو بآخر أنهم يمارسون عملا غير قانوني، مما يصعب من عملية التواصل معهم.
غير أن هناك بعض المواقع لا يسيرها أفراد، بل هي تابعة لشركات معروفة، من قبيل موقع “Maroczik” التابع لشركة بالدار البيضاء اسمها vu.ma لصاحبها محمد مزيان ، مما يجعلها في جدل قانوني كبير يتمثل في حيازة مصنفات فنية دون الحصول على حقوقها، إضافة لكون هذا الموقع لا يزال يضع مقاطع لمغنين اعتزلوا الغناء، وأوصوا بحذف أغانيهم مثل جدوان والشاب رزقي.
ومهما يكن من تضارب حول أرباح هذه المواقع، فالأكيد أنها توفر مبالغ مالية محترمة لأصحابها، خاصة أن أرباح موقع مثل ” Maroczik” لا تتوقف عند المبالغ المتداولة أعلاه التي تخص إشهارات جوجل، وإنما تتعداها لتصل إلى المبالغ الكبيرة التي يتلقاها الموقع من شركات مغربية تروج لمنتجاتها بالموقع المذكور أعلاه، والذي يملك صاحبه المسمّى “مزيان” أيضا شركة لتوزيع الإعلانات بمعايير غير معروفة على الأنترنت حيث تضخ بعض إعلاناتها في مواقع متخصصة في انتهاك حقوق الملكية الفكرية.
هل تحترم هذه المواقع حقوق المؤلف؟
يُعرَّف المؤلف حسب قانون حماية حقوق المؤلف بأنه الشخص الذاتي الذي أبدع المصنف الذي يمكن أن يكون مصنفا موسيقيا، وكل إشارة إلى الحقوق تعني الحقوق المعنوية كنسب المصنف إلى صاحبه وعدم تحريف أو بتر المصنف، إضافة إلى الحقوق المادية من قبيل عدم استنساخ أو عرض أو إذاعة المصنف بغير علم مؤلفه.
موقع Maroczik” يكتب في باب الملكية القانونية، أنه موجه للاستخدام العائلي فقط، وأنه غير مسؤول عن المقاطع الموسيقية التي يضيفها الأعضاء، وبالتالي فالمسؤولية المدنية والجنائية يتحملها من يضع الأغاني وليس صاحب الموقع، على اعتبار أن ” Maroczik”” ليس سوى مساحة لنشر الأغاني، وهو ما يتماشى مع القانون المغربي حسب ذات الموقع.
ويذهب إريك كوهن، صاحب موقع ” maghrebspace “، في نفس الاتجاه حيث يقول إنه يحترم حقوق المؤلف، فطاقم تسيير الموقع يتكلف فقط بإدارة المقاطع الغنائية التي يقول إنها تضاف من المغنين أنفسهم قصد الوصول إلى أكبر عدد من المستمعين، أو من طرف معجبيهم الذين يحتم عليهم التوقيع على بند قانوني قبل الدخول للموقع ينص على ضرورة عدم وضع أغاني محمية الحقوق. ويمكن لأي مغني يرى أن هناك خرقا لملكيته الفنية أن ينبه إدارة الموقع لهذا الأمر، التي تقوم بالإجراءات اللازمة، وأعطى كوهن مثالا بالمغنى الجزائري الشاب قادر الذي نبه إدارة الموقع إلى أن هناك العديد من الأشخاص يضعون أغانيه في الموقع، وبعد غلق كل حسابات الأشخاص المنتهكين لحقوقه، فتح الشاب قادر حسابا رسميا له وضع فيه كل أغانيه.
وهناك بعض المواقع التي تتحدث عن قوانين “غريبة”، مثل musicmuzic الذي يقول في بند قانوني إنه على المستعمل أن يستمع للأغنية المحملة من الموقع في حدود 24 ساعة، وعليه أن يحذفها بعد ذلك من جهازه، وإلا فإن الموقع لن يتحمل أي مسؤولية من الضرر الذي يحدث للحاسوب بعد ذلك، وهي معلومة في غاية الغرابة على اعتبار أن عملية التحميل لو كانت تشكل خطرا ما على الحاسوب، لظهر هذا الخطر مباشرة بعد التحميل وليس بعد مروره بوقت من الزمن.
عبد الله الودغيري، مدير المكتب المغربي لحقوق المؤلف، يقول إن جميع هذا المواقع لا تحترم حقوق المؤلف، وأنه حتى فتح المجال أمام المستعملين لوضع مصنفات فنية محمية يعرض هذه المواقع المستضيفة للمتابعة القانونية، فهناك مسؤولية جنائية ومدنية لمثل هذه المواقع التي تقول إنها تستضيف فقط.
وأردف الودغيري بأن البند القانوني واضح في هذا المجال، حيث تنص المادة 65.4 من قانون حماية حقوق المؤلف بالمغرب على ما يلي: “كل مقدم خدمات له القدرة على الإشراف على خروقات حقوق المؤلف أو مراقبتها، وله مصلحة مالية مباشرة، تعتبر مسؤوليته المدنية قائمة”.
وأوضح الودغيري أنه لا وجود لموقع مغربي مرخص له بوضع الأغاني، وأنه من المفروض على أي موقع أن يسأل موافقة المغني قبل وضع أغانيه أو الإشراف عليها بالموقع، وهو ما تؤكده المادة 45 من القانون المذكور التي توجب موافقة المؤلف، وبالتالي فالحديث عن عدم تبليغ المغني عن الأغاني الموضوعة بالموقع، لا يعفي صاحب الموقع من المتابعة.
لماذا لا يشتكي الفنانون من انتهاك حقوقهم؟
إن سلمنا بوجود هذه الانتهاكات المتتالية لحقوق الفنانين في المغرب، فلماذا لم يرفعوا دعاوى قضائية ضد هذه المواقع ما دام الودغيري يقر أنه لا يوجد فنان مغربي على الإطلاق اشتكى من قرصنة أغانيه على الانترنت؟.. سؤال طرحناه على المغني الشاب توفيق حازب الملقب بالبيغ، الذي يعد واحدا من أكبر ضحايا القرصنة على الانترنت..
البيغ أبدى تعاطفه النسبي مع عشاقه الذين يستمعون له من خلال هذه المواقع، فغياب ثقافة الشراء عبر الانترنت بالمغرب يجعل من الصعب على الشاب الذي تعود على المجانية في الانترنت أن يقوم بدفع مقابل مادي ما للاستماع لهذه الأغاني، يقول البيغ، وهو عكس ما يحدث في بلدان أجنبية، حيث يشتري عشاقه مقاطعه الغنائية من مواقع عالمية تعمل بشكل قانوني، كموقع “يالا فم” الذي يربطه به عقد نشر.
غير أن هذا التساهل لم يمنع البيغ من أن يكشف عن السبب الذي يمنعه من الشكوى، والذي يتمثل في تعقد المسطرة القانونية، فقد يصرف أموالا مهمة من أجل دعوى قضائية قد لا تقدم النتائج المنتظرة منها خاصة أنه لا يعلم من هو طرفه في القضية، وهو نفس ما يؤكده مغني الراي سعيد مسكر الذي تحدث عن كون خسائره بلغت حدا لا يطاق مع قرصنة أعماله على الانترنت، والذي وفر ألبوماته بشكل مجاني دون التفكير في حجم المبالغ التي استثمرها فيه، أما الشكوى ضد هذه المواقع، فهي لا تفيد، لأنها من جهة مواقع كثيرة وقد يقضي جزء كبيرا من حياته في ردهات المحاكم، وثانيا لأن الإشكاليات القانونية تعقد معرفة أصحاب هذه المواقع.
وفي الجانب الأخر، يتحدث سيمو الملكي، مغني الراب المعروف بماسطا، عن كون القرصنة ساعدته في الشهرة وفي أن يعرف الجمهور أغانيه، مشيرا إلى أنه لولا القرصنة لما انتشر فن الراب بالمغرب، خاصة أن ثقافة حقوق المؤلف شبه منعدمة بالمغرب، يقول مغني الراب.
هل الانترنت يعقد تطبيق القانون؟
الودغيري أشار إلى وجود مجموعة من الإشكاليات القانونية التي تصعب من عملية الحد من القرصنة على الانترنت، ومن ضمنها عدم وجود قضاء مغربي متخصص في جرائم الانترنت حيث لا تزال محاكمنا غير ملمة بمثل هذه التفاصيل الجديدة، وكذلك قضية الاتفاقيات الدولية الخاصة باحترام الملكية الفكرية على الانترنت التي لم توقعها جميع دول المعمور، مما يسهل من مهمة أصحاب هذه المواقع الذين قد ينصبون مواقعهم في خوادم (أو ما يسمى سيرفور) بدولة غير موقعة لهذه الاتفاقيات التي تنصص على مبدأ “المعاملة الوطنية”، والذي يؤكد على وجوب التعامل مع الفنان الأجنبي بنفس القانون الذي بموجبه يتم التعامل مع الفنان المحلي، حيث إن كل خرق حقوق مؤلف أجنبي يعتبر بمثابة خرق لحقوق مؤلف محلي.
إشكال آخر عميق يتعلق بالقرصنة على الانترنت، وهو جدل حجب المواقع، فهذه العملية تبقى غير مضمونة العواقب ما دامت تهدد حرية الانترنت والتزامات المغرب في هذا المجال، وقد تهدد بتصادمات خطيرة بين القراصنة والسلطة، إضافة لكون قرار كهذا قد يثير جدلا شبيها بذلك الذي أثاره إغلاق موقع ميجا أبلود الأمريكي، حينما انتفضت مجموعة من المواقع المعروفة كالفايسبوك وجوجل ضد قانون سوبا المتعلق بحماية الملكية الفكرية.
كيف يمكن أن يعاقب أصحاب هذه المواقع؟
مسطرة متابعة هذه المواقع قاسية، فالمكتب المغربي لحقوق المؤلفين يباشر بداية اتصالاته بالموقع المقصود بعد وضع الفنان لشكاية ضده، وذلك في إطار ما يسمى بالتدابير التحفظية التي يرسل من خلالها المكتب إنذارا إلى الموقع المذكور يحتم عليه حذف المادة الفنية الموضوعة تحت الشكاية فورا، وفي حال ما إذا كان الموقع أجنبيا، يخاطب الموقع مكتب حقوق التأليف لذلك البلد، الذي يتكلف بعملية تتبع وقف المادة المقصودة.
وبعد هذه التدابير التحفظية، يأتي دور العقوبات المدنية المنصوص عليها في المادة 62 من قانون حماية حقوق المؤلف والحقوق المجاورة، حيث على صاحب الموقع تعويض الفنان بقيمة قد تصل إلى 25 ألف درهم لجبر الضرر الحاصل، لتأتي العقوبات الجنائية بعد ذلك، إذ يعاقب صاحب الموقع بالحبس من شهرين إلى ستة أشهر، وبغرامة مالية تصل إلى 100 ألف درهم.
ما البديل؟
البديل هو ما يرفعه أصحاب هذه المواقع الذين يرون بأن من حقهم الاعتماد على الانترنت كمصدر دخل، بينما يرى الكثير من الفنانين في هذه المواقع حبل مشنقة قد يحكم على مسيرتهم الفنية بالإعدام، وهو ما يؤكده توقف عدد من المغنين المغاربة عن إبداع مقطوعات غنائية جديدة بسبب تراجع أرباحهم.
إن الحد من القرصنة على الانترنت يمر أولا بالإنصات لأصحاب المواقع قبل أية عملية زجر، لأن أي ردع منذ البداية قد يؤدي لعمليات انتقامية قد تجعل من الحرب على القرصنة مكلفة في الوقت وفي التكلفة، وهو ما يؤكده الودغيري الذي تحدث عن لقاء تواصلي قريب بين وزارة الاتصال وأصحاب المواقع الغنائية ومزودي الخدمات، الغرض منه هو الاستماع للجميع من أجل الانتقال إلى نشاط ربحي على الانترنت لا يستدعي القيام بالقرصنة.
القرصنة ليست عملية تمس قطاعا معينا في المغرب، بل تسبب أضرارا كبيرة لمجموعة من القطاعات المترابطة، وبالتالي فقد وجب على عدد من الوزارات التدخل من أجل مقاربة تشاركية: العدل، الداخلية، المالية، الاتصال، وكلها وزارات معنية بمشكل القرصنة على الانترنت، وذلك من أجل إحداث لجنة وطنية للحد من القرصنة، يراها الودغيري ضرورية ومستعجلة.
ويبقى الحل الأكيد للخروج من دوامة القرصنة التي أغرقت المغرب هو تربية الجيل الناشئ على احترام حقوق المؤلف، وهو الرهان الذي يقع أساسا على وزارة التربية الوطنية، وعلى الأسرة وتنظيمات المجتمع المدني، ما دامت جميع الإحصائيات تؤكد بأن للمراهقين نصيب الأسد من عمليات التحميل الغير القانونية على الانترنت، فعندما يختار الإنسان بملء إرادته أن ينتصر للطرق الشرعية في الانتفاع بجهود الآخرين، لن تحتاج الدولة لتطبيق قاس للأحكام الزجرية إلا في حالات قليلة..
ومهما يكن من حديث حول القرصنة، فالانترنت يبقى مجالا واسعا لحرية إن لم تستخدم بالشكل الأنسب تصير نوعا من الفوضى، فنقرات على محرك البحث جوجل تمكن المستعمل من تحميل ما يريد وبالجودة التي يريد، ليظهر أن الحرب على القرصنة ليست بالسهلة، بل قد تمتد لسنوات أطول حتى من كل تلك الحروب التي عرفتها البشرية.