فتحي: الدعوات إلى “تحرير” الإجهاض ليست مطلباً شعبيا
اعتبر خالد فتحي أستاذ أمراض النساء بمستشفى الولادة السويسي والباحث في العلوم السياسية أن ظهور بعض الدعوات إلى تحرير الإجهاض بالمغرب في الآونة الأخيرة لا يعكس مطلبا شعبيا طارئا بقدر ما يكشف عن وجود لوبي نشيط إعلاميا أضحى يتوفر على وسائل هائلة، ويتحرك بخلفية تجارية واديولجية، على عدة واجهات وبدعم واضح من بعض الجمعيات الحقوقية وجهات علمانية لفرض خيار يعاكس ثوابت الأمة الدينية والحضارية عن طريق الصراخ والجلبة والتمويه والإلحاح المقرف الممل وإدمان الاحتجاج بغير وجه حق، دون عبور بوابة الديمقراطية، الممر الإجباري لكل التشريعات والقوانين بما فيها البسيطة منها في حياة الناس، فبالأحرى تلك التي تروم تغييرا جذريا يمس هويتهم وأصالتهم ونظرتهم للكون والحرية والحياة.
ومضى فتحي في هذا الحوار يفكك عناصر الخطاب الذي يروج له دعاة تحرير الإجهاض، مشيرا إلى أن دعاة الإجهاض ينهجون أسلوبا شعبويا وارتجاليا يركز على دغدغة مشاعر المواطنين وخداعهم والاستتمار الانتهازي لمآسي بعض الحالات الخاصة للوصول إلى تحرير الإجهاض دون الاعتماد على الأدلة والبراهين العقلية أو حتى ترك الكلمة للشعب ليقرر لنفسه في هذا الأمر.
هل يستدعي الأمر توجيه انتقادات لاذعة لدعاة الإجهاض، إلى درجة نعتهم في بعض الأحيان بالمهووسين؟
استغرب كيف أصبح قلة من المهووسين بنموذج الحياة الغربي في شقه المائع المتفسخ، يملكون “قضية”، يناضلون و “يعبئون ” من أجلها في حربهم “المقدسة” ضد ” المحافظين” الذين يمنعهم ” جمود الدين و القيم “من استيعاب ” الفضائل الكثيرة ” للإجهاض.
لكن على كل حال لديهم مطالب يقولون بأن الضرورة تدعو إليها؟
تبقى مطالب من هذا القبيل تافهة، لا تصمد ليس أمام الأدلة الشرعية فقط بل حتى أمام الأدلة العقلية نفسها، وإذا كان هؤلاء من الصنف الذي يتبجح بالعقل، فإنهم يظلون حداثيين مزيفين بخطابهم فقط، دون أن يعملوا عقولهم بالفعل وينضبطوا إليها في صياغة مقاربتهم غير المتماسكة، لأنها” مقاربة لا أخلاقية ولا قانونية ولا علمية ولا شرعية ولذلك فقد ظلت دون صدى رغم طرقهم لكثير من الأبواب، برلمان أحزاب سياسية ، مؤسسات طبية …”.
لماذا في نظرك فشل هؤلاء في تحقيق مطالبهم؟
يكفي أن يكون لكلمة “إجهاض” ذات دلالة قدحية بإجماع الكل، فهي تشير إلى الفشل والإخفاق والسقوط وعدم اكتمال الشيء، وكان هؤلاء الذين أنعتهم ب”المتصدقين بالحداثة ” أول من يستعملها للتعبير عن خيبة الأمل في مجالات أخرى كمجال السياسة والاقتصاد والرياضة… فكيف يعود لها معنى إيجابي بمخيلتهم حين يتعلق الأمر باستعمالها في مجالها الأصلي الذي انطلقت منه، مجال الحمل والولادة. أي في معناها العاري غير المجازي. فأي مغالطة يروج لها مناصرو الإجهاض حين يتقمص المجاز المعنى القدحي للفعل ويفقد الفعل معناه ذاك .
هل هي محاولة منكم، لإرجاع مفهوم الإجهاض إلى منظومة معينة للقيم؟
الإجهاض يشي دائما بشبهة فساد أيا كان الحقل الذي توظف فيه الكلمة. وفيما يخص الحمل، فإن الإجهاض التلقائي والطبي اللذان لا يثيران مشاكل أخلاقية يقع بسبب “فساد” في صحة الجنين يجعله يسقط تلقائيا وطواعية أو اتقاء ” بفساد ” قد يصيب صحة الأم الحامل.
ويقع الاجهاض العمدي الذي يدعو هؤلاء لتحريره حين تكون هناك أوضاع فاسدة اجتماعيا أوقانونيا أو أخلاقيا أو اقتصاديا أو تعليميا.
لذلك يكون من المجدي الانكباب على إصلاح الأسباب لا إصلاح النتائج من خلال تنقية منظومة القيم بمفهومها الشامل مما تسرب إليها من فساد وبلل.
ترون أن دعاة الإجهاض يغفلون المضاعفات الخطيرة للإجهاض العمدي، كيف ذلك؟
إن الداعين للإجهاض العمدي يغفلون الحديث للناس عن المضاعفات الخطيرة لهذه الممارسة على الصحة النفسية والعضوية للمرأة، حيث قد يؤدي إلى الوفاة بسبب النزيف الحاد، وإلى حدوث أضرار بليغة بالجهاز التناسلي للمرأة، كتوسع عنق الرحم، والتصاقات الرحم، وانسداد قنوات فالوب، مما يودي بخصوبة المرأة نهائيا. والنساء اللائي خضعن للإجهاض يعشن صدمة نفسية مضاعفة، لأنهن من برمج موت الجنين وسعى إليه، حيث يقمن بنفي مشاعرهن السلبية بالعقل الباطن، فتتطور جراحهن النفسية على مهل، إلى أن تظهر بعد ذلك على شكل توتر وحزن واكتئاب دائم وشعور غامض بعدم الارتياح واللاجدوى.
لذلك ليس غريبا أن تثور في دواخل المرأة ذكرى هذه الحادثة سنوات طويلة بعد الخضوع لها ليطلبن “الغوث الطبي” حتى بعد مرور 20 سنة، لأن الإجهاض العمدي وفقه يظل جرحا غائرا في نفسية المرأة لا ينزف ولكنه لا يشفى أبدا. بل هل ألم دفين يسكن ويغفو ولا ينقضي أو يتلاشى”.
لكن هؤلاء يستندون إلى مقولة “حرية المرأة في التصرف في جسدها”.. ؟
(مقاطعا.. ) إن النساء لا يتقبلن حتى الإجهاض التلقائي الذي هو قضاء وقدر، لأن في أعماق النفس البشرية رفض قاطع للإجهاض، يتساوى في هذا الشعور من يدعو له ومن يناهضه ومن يخضع له ومن يمارسه، ودعاة الإجهاض بالمغرب يصدرون عن نفس “الخطة الدولية” لاستصدار مثل هذا القانون، والتي تقوم على ” تحسيس الرأي العام” ببعض الحالات الاجتماعية المعزولة، وترديد بعض الأرقام حول “هول” الظاهرة، لتصوير الإجهاض كحاجة شعبية ينبغي أن يستجيب لها القرار السياسي في البلاد، ولتعبئة الإعلام ضد أصحاب الخطاب المضاد مع إرسال إشارات تمويهية ” لجيوب المقاومة ” لتخديرها، من قبيل الدفع بأنهم ضد الإجهاض السري فقط، وأنهم سيركزون أيضا على الأخذ بأسباب الثقافة الجنسية، وإشاعتها في أوساط الشباب، وأنهم مع الإجهاض فقط في بعض الحالات المحدودة، كالاغتصاب وزنا المحارم تشوه الجنين، وحين تكون صحة المرأة في خطر، ويدسون الوضعية النفسية والاجتماعية للحامل ضمن لائحة هذه الأخطار.
دون أن ينسوا، أن يخلبوا لب الناس بمقولات براقة من قبيل ” حرية المرأة في التصرف في جسدها ” رغم أن هذا المبدأ لا ينسحب على الجنين لأنه ليس جزءا من جسد الحامل.
لكن تزعم بعض الإحصائيات أن حوالي ألف امرأة تخضع يوميا للإجهاض السري، ما ردكم؟
هذا الرقم مشكوك فيه، فوزارة الصحة نفسها لا بيانات ولا أرقام لديها . وعلى افتراض ” أننا ابتلعنا” هذا الرقم فذلك ليس مسوغا لتحرير الإجهاض، لأن الأرقام ليست مبررا للتطبيع مع الآفات والظواهر السلبية، فهل إذا ارتكب 1000 مغربي جنحة السرقة أو الرشوة هل سيكون ذلك أيضا مبررا لإصدار قانون لتحرير الرشوة والسرقة؟ هل هو تقنين الانحرافات إذا تفشت وذاعت بين الناس؟ أم هو إضفاء الطابع الإلزامي على الحقوق التي تستمد مشروعيتها في الأصل من ماهيتها ومن أخلاقيتها. فالقانون يجب أن يكون وسيلتنا الجبرية لإصلاح أحوال الناس ومحاربة الامراض التي تنخر المجتمع.
وليس من مهمات القانون أبدا الاستسلام أمام الأهواء والنزوات و”الصرعات الجديدة للحقوق” التي تتفتق عنها مخيلات من “احتجزوا والحداثة، وصاروا يحملونها عكس ما تبشر به من اتباع الجادة العقل والعلم، فالمشروعية لا تعني دائما الشرعية.
لكن على الأقل تقنين الإجهاض سيرفع عنه كمرحلة أولى “وصمة العار”؟
أتحدى الجهة المدافعة عن تحرير الإجهاض، لأن إدراج الاجهاض ضمن المنظومة القانونية لايغير شيئا من طبيعته الجرمية واللاأخلاقية. لأن طبيعة الفعل منفصلة تماما عن قانونيته . فتقنين الاجهاض لن يرفع عنه وصمة العار. ولن يجعله يمارس في واضحة النهار . فكل إجهاض عمدي، قانونيا كان أو غير قانوني كان، هو دائما إجهاض سري: هو سر يكتمه الطبيب والحامل والأطراف المعنية . لأن إيمان الطبيب والمريضة بشرعية الخدمة الطبية وأخلاقيتها هو ما يرفع عنها طابع السرية . فهل يعتقد: المناصرون للإجهاض أنه إذا تم تحريره سيقوم أب في الغد الذي يليه باصطحاب ابنته لأجل إجراء إجهاض؟
لكن يمكن أن يقع هذا في وقت من الأوقات؟
يتطلب حصول هذا التحول شعبا آخر غير الشعب المغربي وقناعات أخرى لن تجد تربتها بيننا أبدا، ويستدعي انسلاخا حضاريا كاملا . وأن كل ما قد يقع هو أن الأطباء الذين يقتاتون من الإجهاض سيصبحون بمنأى عن المساءلة القانونية عن فعل لا أخلاقي يتنافى وقَسَم أبقراط وسيصبح بإمكان أي فتاة أن تجهض دون علم من عائلتها. أي أننا سنؤسس لمجتمع جديد لا يمت بصلة لهذا المجتمع الذي يودون الآن تغييره .
فهلاّ كنا نستفتيه إذا، إن كان راغبا في أن يصير إلى هذه الشاكلة وإلى هذا النحو أم هو غير راغب ؟ أليس الاستفتاء أعلى درجات الديمقراطية ؟ أوليست الأرقام التي يقدمها دعاة الإجهاض أكبر ضمانة لهم لكسب اختبار الديمقراطية هذا؟ فلماذا لا يغامرون بالاحتكام إلى الشعب؟
لكن هناك حالات تحتاج إلى مثل هذه العمليات؟
يتناول دعاة الإجهاض هذا الموضوع بسطحية، بحيث يعتمدون الإثارة بعرض بعض الحكايات المؤلمة لنساء لم يتح لهن الإجهاض، وذلك لممارسة ضغط معنوي على الرأي العام قصد تحريره لأجل أن “يتساوى” الكل في الانحدار إلى هذه الحافة. وهذا حل سهل يهتدي إليه حتى المخرفون، بينما كان حريا بهم أن يسائلوا النظام التعليمي والتربوي والاجتماعي والقيمي والأخلاقي للمجتمع، وكان عليهم أن يبحثوا أيضا إن كان المسجد والمدرسة والتلفزة والأسرة والشارع يقومون إلى حد الآن دورهم الكامل في تربية وإعداد النشئ الصالح للأمة .
وكان عليهم فحص كذلك، النظام الاقتصادي حول مدى تحقيقه للعدالة الاجتماعية، ويدفع عن النساء غائلة الإملاق والتشرد والضياع أم لا ؟ فتلك هي المقاربة الصحيحة “لظاهرة الإجهاض”وتلك هي العوامل الخفية التي تمهد من وراء الستار لكل إشكاليات الحمل غير المرغوب فيه والتي ينبغى محاربتها.
هناك من يربط ذلك بمنظومة حقوق الإنسان، كيف ترون العلاقة بين الموضوعين؟
إن ما يستفزني في خطابات دعاة الإجهاض كيلهم بمكيالين، حين يربطون دسترة الحق في الحياة، بضرورة إلغاء عقوبة الإعدام، فيطالبون بالحياة لمجرمين عتاة، ولا يرون فيها منعا نهائيا لأي محاولة لتحرير الإجهاض، فيلحون في طلب الموت لجنين برئ وضعيف والأولى بالحماية في رحم أمه. ألا يستحق هذا الجنين أن يناضلوا من أجل حياته هم الذين أطنبوا وتفننوا في ابتداع ” أنواع جديدة من الحقوق ” ولم يمتد ” تكلفهم الحقوقي ” هذا إلى الدفاع بحق الجنين في الحياة وفقا للدستور .
إننا في المغرب وبقية دول العالم الإسلامي عاجزون عن المساهمة في النقاش المبلور لحقوق الانسان كما أضحى يتعارف عليها دوليا . وأننا نتلقى ولا نلقن . ونستورد المفاهيم ولا نصدرها. وهذه مأساة الفئة المنهزمة من نخبتنا الحقوقية. والتي أدخلوا في روعها أن الهزيمة نابعة من “الجينوم” الحضاري لشعوبنا. لذلك تقترح علينا استبدال جيناتنا الحضارية بأخرى غربية عنا.
ولن نتقدم إلا بانسجام تام مع سياقنا الحضاري. فلا أحد يتخلص من جيناته. ونحن نختلف عن الغرب في أسسنا الحضارية. والموقف من الإجهاض هو أحد هذه النقاط الخلافية الكبرى التي تميزنا وتحفظ هويتنا، وإن الإجهاض ليس قانونا يُضَخُّ في التشريع الوطني وكفى، بل هو يجرنا جرا إلى تذكر ينابيعنا الحضارية الأولى من جديد والتساؤل عن من نحن؟ ومن نكون؟ وما دورنا؟ وما مفهومنا للحياة. فهذا هو النقاش الجدي الذي يمانع دعاة الإجهاض من الانقياد له.
لكن دعاة الإجهاض يستندون إلى ما يصفونه بالنظريات العلمية لتسويغ دعواتهم؟
إنهم مجرد أقلية تستغل اطمئنان الأغلبية وتقاعسها لإملاء خيارها على المجتمع برمته. وهنا أدعو الفقهاء والعلماء إلى عدم الانبهار باللقاءات العلمية لدعاة الإجهاض ومؤتمراتهم المطبوخة حيث قد لا ينجون من الضغط والتدليس العلمي، طالبهم بالإدلاء باجتهاداتهم بحياد واستقلال تام عن البهرجة التي تصاحب مثل هذه المؤتمرات، ودون بحث عن الإثارة أو سعي للنجومية. فالفقيه العصري يلتزم بالعلم، ولا يساير الأهواء والنزوات، ويقول الحقيقة الشرعية ولو كان ذووا الأهواء سيتهمونه بالتحجر والمحافظة، وإن الاجتهاد في هذه القضية ينبغي أن ينبثق عن المؤسسات المخول لها ذلك، دون أن ننسى أننا تتقاطع الاجتهاد في هذه المسألة مع كل دول العالم الإسلامي . فالقضية واحدة، والحلول الفقهية، ينبغي أن تكون موحدة وشاملة لكل المسلمين. وإنه بالرغم من حرص دعاة الإجهاض لضم أطباء أمراض النساء لمعسكرهم لاستخدامهم ” كشهود” يستصدرون بهم هذا القانون فإن الأغلبية الساحقة منهم بما فيهم أولئك الذين يمارسونه لا يتبنون موقفا مدافعا عن الإجهاض، وأن هؤلاء الاطباء يلجؤون للتخصص في الإجهاض لأنهم لم يستطيعوا تخصصا غيره. ولأنهم يبحثون عن الربح السريع. وأنهم ينتهون إلى الإقلاع عن هذه الممارسة بسبب وخز الضمير والعذاب النفسي الذي يرافقها .
إن الإجهاض بسبب تشوه لدى الجنين يقتل حاسة البحث العلمي في المجال الطبي فليست كل التشوهات قاتلة. بل أغلبها قابل للعلاج، وبعضها يمكن علاجه داخل الرحم. وأن أي ايديلوجيا مهما بلغت صلافتها لا تستطيع أن تبرر عقليا وعلميا الإجهاض بدعوى حرية المرأة في التصرف بجسدها، لأن هذه مغالطة أخرى: فالجنين يعيش في شبه انفصال تام عن أمه، هو ضيف لديها وليس جزءا منها، بدليل أن فصيلته الدموية ليست دائما من نفس فصيلتها، كما أنه بإمكان المرأة تأجير رحمها لإنجاب أطفال ليسوا من صلبها. فالحمل هو عقد حياة بين المرأة وجنينها تلتزم فيه بإيوائه وتغذيته وولادته. ولذلك فإنه يستحيل بالبداهة وبالعقل وبالحداثة أن يكون الإجهاض حقا من حقوق الإنسان. ولهذا أدعو المغاربة إلى الانتباه إلى كون دعاة الإجهاض هم أيضا من يدعون للحرية الجنسية ورفع سن الزواج لدى الفتيات، فتحرير الاجهاض لديهم ما هو إلا لبنة ضرورية من لبنات المجتمع المتفسخ المنحل الذي يدعون له.