الرابحون والخاسرون من مؤتمر حزب العدالة والتنمية
مر مؤتمر العدالة والتنمية السابع بردا وسلاما على قياداته بعد تجديد الثقة في عبد الإله بنكيران أمينا لولاية ثانية، ومصادقة المؤتمرين على تحديد الولايات الانتدابية في المسؤولية الحزبية لولايتين.
فمن أحب الحزب نظر إلى نصف الكأس المملوء، وأشاد بالتنظيم المحكم للمؤتمر وما استطاع تبليغه من رسائل سياسية متنوعة الاتجاهات، رغم أن استضافة “عوفير برانشتاين” عكر بهجة هؤلاء للحظة تم تنفيسها ببيان رئاسة المؤتمر حول حيثيات الاستضافة.
ومن في نفسه شيء من “حتى” نظر إلى النصف الفارغ من الكأس ودبج مقالاته يبسط فيها نوعا من الاجتهادات لعلها تسعف في تنوير الوسط الحزبي لضرورة استحضار الأبعاد الاستراتيجية المطلوبة من حزب يعول عليه كثير من الإسلاميين بالمغرب وخارجه للقطع مع الارتزاق السياسي وشهوة الخلود في الكراسي، لهدف جعل الديمقراطية في خدمة الشعوب بدل خدمة الماسكين بالقرار السياسي والاقتصادي.
والأكيد أن تعيين الرابحين والخاسرين بأسمائهم وصفاتهم من المؤتمر قد يسقط في أحكام قيمة تصرف عن الأهداف المتوخاة من تدبيج المقالة، لذا سنركز على “تيمات” ، نعتبرها أوراش فكرية رئيسة تختزن وجهي العملة، فمن أحب الحزب وجد بغيته فيها، ومن في نفسه شيء من “حتى” وجد ضالته في إثارتها.
التطبيع وزيارة “برانشتاين”
يصاب المرء بذهول كبير وهو يتابع ردود فعل قيادات الحزب والحركة، الحليف الاستراتيجي للحزب، مع زيارة “عوفير برانشتاين” .
فكل يلقي باللائمة على غيره، ومنهم من ذهب يشرعن الأمر أو يدفعه بناء على أخبار الصحافة، فكانت الردود فرصة نادرة منحت للخصوم مطية الانتشاء بالزلة أو الاختراق أو العبث، وكأننا تفاجأنا بالأمر بدون سابق تخطيط إلا ما كان من عقد المؤتمر في وقته دون تأجيل.
غير أن الحدث في وجه من التقدير الفكري والسياسي، لا يستأهل كل هذه الضجة، لكونه من مهمة المفكرين والعلماء، الذين يتضايق من وجودهم بعض قياديي الحزب، لخلخلة مقاصده الشرعية والسياسية دون ضجيج الإعلام ووجباته السريعة.
فحدث الزيارة يأتي منسجما مع ثقافة “الحرية”، التي يعيشها أعضاء الحزب بفرنسا وتمييزهم الدقيق بين عملاء الصهاينة بحق وبين من لديهم عقلانية تعايش وتسامح مع الآخر وربما منهم من يدافع عن القضية الفلسطينية بجرأة نادرة(سفير إسرائيل بفرنسا وجه رسالة لقادة الكيان الصهيوني أشد لهجة من بعض المسلمين وأنهم خانوا التوراة وقلدوا أفعال هتلر في حربهم على غزة ـ نشرنا مقتطفات منها بموقع أون إسلام لمن يريد الرجوع إليها).
والدافع، في اعتقادي الشخصي، للسقوط في هذا “الندم” المفتعل على الاستضافة وتهويل أمرها هو الابتعاد عن قراءة “قرآنية” للقرآن، وربط الصراع بأحداث التاريخ بدل ربطها بالتوجيه القرآني في التعامل مع الأخر.
فالقرآن العظيم يرشدنا بأن أهل الكتاب “ليسوا سواء”، وبالبر بمن لم يقاتلنا ولم يخرجنا من ديارنا ولم يظاهر على إخراجنا، والضيف لم يخرج مسدسه ولم يقل كلمة خلال المؤتمر، أليس هذا ظلما اقترفناه دون وعي !
والضيف المذكور، وبشهادة من حضر الجلسة الافتتاحية، لم يعلم بوجوده أحد، بل إن من اهتزت لهم القاعة هو “خالد مشعل”، رئيس المكتب السياسي لحماس، بطلاقته ووضوحه الفكري في التعامل مع المصالحة والمقاومة.
وكان الأفيد لحزب العدالة والتنمية أن يكون واضحا في قراراته السياسية دون “شخصنة” الأخطاء، لنية يعلمها أصحابها، بالتأكيد أنهم أهل نظر وأن استضافتهم للرجل، وإن أخطأنا التقدير حول سابق استضافته بمعهد أمانديوس، لم يجاهر بعداوة للإسلام والمسلمين.
فتفعيل مقاومة التطبيع حالة وجدانية مستمرة لا تحتاج لتصريحات مبرئة للذات، بل تبدأ بقطع المعاملات الاقتصادية مع الكيان المحتل بفلسطين عمليا، ونشر لوائح الشركات المتعاملة معه تصديرا واستيرادا، ونحن الآن في موقع التدبير الحكومي.
ثانيا أن تبرأنا من الضيف، أو حتى الصفير، الذي صاحب ذكر اسم ممثلة إسبانيا، ينم عن فقر شرعي في الثقافة السياسية لدى أعضاء الحزب، والرسول الكريم أوصى بالضيف خيرا، ومثل المغاربة الساري يقول”لا ينبح في بيته إلا الكلب”، وهي ردود فعل تؤكد أن تضخيم السياسة على الأخلاق القرآنية قد يسقط في الزلة والخطيئة الصحيحة لا المتوهمة.
التجديد والتشبيب
هلل كثير ممن يحبون الحزب أو بعض قياداته “حبا جما” بإعادة انتخاب الأستاذ عبد الإله بنكيران لولاية جديدة بتبرير دعم التجربة الحكومية وما بذله الرجل من تضحيات في المرحلة السابقة أوصلت الحزب إلى ما وصل إليه.
وهؤلاء، وغيرهم ممن ينظرون لمثل هذه التبريرات، تناسوا أن من جدد له ليس هو شخص عبد الإله بنكيران لوحده، بل هو مجموعة من الأشخاص، لم يعد يمسها سوء في مراكز المسؤولية، وقد ربطت مصالحها بوجوده إيجابا وسلبا.
وقد كان المؤتمرون أمام خيار آخر غير خيار التجديد الميكانيكي، وذلك بتبرير”تفريغ كل القيادات الوزارية للتدبير الحكومي خدمة للدين والوطن” وانتخاب قيادات حزبية داخلية أخرى تمنح الحزب أوكسجين التجديد الحقيقي، تنظيما فكريا وتقنيا.
وقد نبه إلى جانب من هذا التصور الأستاذ محمد العثماني حول حزب العدالة والتنمية وتدبير المخاطر بضرورة فصل الحزبي عن الحكومي.
فلم يخطر على بال هؤلاء أن التجديد في العلبة السوداء للحزب (أو الأمانة العامة) لم يشمل فقط شخص الأمين العام، بل حظي به أيضا شلة من القيادات، التي تحتاج هي نفسها للراحة الفكرية والسياسية لفسح المجال أمام القيادات البديلة سياسيا وفكريا دون الاتكاء على مسوغ حماية البوصلة السياسية للحزب، حيث حرم من هذا الاحتماء من يشم فيهم رائحة النقد الفكري والعقلاني لطبيعة التدبير السياسي للحزب.
ويبقى تصحيح هذا الوضع ممكنا وموكولا لبرلمان الحزب (المجلس الوطني) بما يمتلكه من طاقات فكرية وسياسية جديدة أفرزها المؤتمر السابع، مع الانتباه أكثر إلى ذكاء وفطنة مثل تلك القيادات في وضع الكوابح أمام هذا الخيار رهبا ورغبا.
إن التجديد الحقيقي في القيادات والمسؤوليات لا يعني بقاء الزعماء في الواجهة في أي انتخابات، بل هو تنحيها كليا وورعا، وترك الباب مشرعا لظهور بعض الرموز الجدد.
فإذا كانت “المعاصرة حجابا”، كما يقول أهل الفكر، فبقاء الزعماء التاريخيين يحجب عن التشبيب الحقيقي، ولا قياس في الانتخاب للمسؤولية علت أو سفلت، وجود قيادي تاريخي يواجه قياديا شابا بطموح مغاير، وهذه مسؤولية الأمانة العامة في تدبيرها المستقبلي، إن هي آمنت بالتجديد فعلا.
الدعوة والسياسة
على الرغم من أن أزيد من 80 في المائة من المؤتمرين أعضاء من حركة التوحيد والإصلاح، إلا أن هذا الحليف الاستراتيجي لم يحظ بما يليق به خلال الافتتاح، وربما يكون لهذا الغياب مبررات يجهلها كاتب المقالة، إلا أن تشريف الجمعيات الإسلامية المغربية (التوحيد والإصلاح، العدل والإحسان، البديل الحضاري، الأمة، الفعاليات السلفية..) بفرصة خلال المؤتمر لا يمكن أن يضيع شيئا من حزب له مرجعية إسلامية إلا أن يكون التغييب نابع من توجس أو غضب يتقى من أصحاب الشأن السياسي بالمغرب.
فحال حركة التوحيد والإصلاح خلال المؤتمر كان شبيها بخال أم عجوز عقها ابنها بعضلاته المفتولة وعقله الصغير، إذ لم يكن الحضور إلا ماديا في شخص الأعضاء والقيادات.
وهنا يمكن إعادة طرح ثنائية الدعوة والسياسة داخل حزب العدالة والتنمية، هل الحزب خادم للدعوة وواجهة لعملها المتنوع والمتخصص أم أن أي بلوغه سن الرشد يجعله في حل من الدعوة ويجعل أهل الدعوة في حل منه مادام استغنى بنفسه عن رعاية أمه؟
فحضور الحركة بعلمائها، لا بقياداتها السياسية، مصدر قوة واعتزاز لدى الحزب، وهي صمام أمان لقوته التنظيمية وانضباط أعضائه، أما الارتهان على بريق السياسة فعاجلا ما يخفت بفعل ذاتي أو موضوعي.
وقد جاء حدث الزيارة بمثابة صدمة يقظة لتعميق النقاش والحديث في تحديد الأولويات والماهية والوجود بعيدا عن ضغط التدبير الحكومي المغرق في الجزئيات، والتي يسكنها الشيطان وأعوانه.
إن الحزب مطالب في أيامه المقبلة، ليس في الابتعاد عما سماه البعض ب”الأخلاقاوية”، بل فقط ترسيخ أخلاقه التي منحته ثقة الشعب المغربي واستتبعتها ثقات أخرى.
والحرص على هذه الأخلاق النبيلة في نصاعتها وتفاعلها الوجداني هو ما سيربحه الحزب، سواء بقي في الحكومة أو خرج منها دون أن تمس “بكارته” الأخلاقية.
غير أن التغييب في المقابل، يبقى رسالة لحركة التوحيد والإصلاح للكف عن التماهي المفرط مع الحزب وقراراته والتوجه رأسا إلى ما حددته في أوراقها المؤسسة، لا خطابات بعض قيادييها، من تركيز عملها على ثلاثية: التربوي والتكويني والدعوي, وتلك هي الرسالة النبيلة التي ألفت بين قلوب أعضائها.
الفكر قائد السياسة
رغم التصريحات التي استتبعت إخراج “المفكر المغربي المقرئ أبو زيد الإدريسي” من منصة الأمانة العامة والإبقاء على غيره، إلا أن الفكر يبقى قائدا للسياسة أحب ذلك من أحب وكره من كره.
فالسياسي قد يموت ذكره بانتهاء مرحلته السياسية أو الانتخابية، بينما أفكار العالم والمفكر قد تعيش خالدة في الوجدان وبطون الكتب والصحف واليوم بتأريخ المواقع الالكترونية.
والداعي لهذا الحديث هو أن المقرئ الإدريسي، رجل الحرية الفكرية والتجديد بدون منازع، ومن يحضر مناقشاته الخاصة الداعية لفسح المجال أمام الشباب لولوج البرلمان أو تقلد المسؤولية يجد نفسه محرجا أمام فكره المتحرر.
فمرة، خلال المؤتمر الثالث لحركة التوحيد والإصلاح بالضبط، كان يقنع الشباب بعدم استعداده لدخول البرلمان مرة أخرى باعتبار أن نصف منزله محجوز بوثائق القوانين التشريعية البرلمانية، وهي رهن الشباب على أن يتأخر الشيوخ ويتحولوا إلى مستشارين، وحدث أن التحق العثماني، السياسي المفكر، بحلقية النقاش، واستمع لقوله، فباركه وإن تحفظ على أن المرحلة تقتضي الإبقاء على أهل العلم والفكر لترشيد التجربة السياسية.
إن الوقت الذي يعلن في حزب العدالة والتنمية تضايقه من أهل الفكر وأهل العلم ويرتاح فقط ل”أشباه المثقفين”، ممن يدبجون المقالات تحت الطلب، يكون قد وقع شهادة وفاته بنفسه، وما عليه وقتها إلا أن يوصي أعضاءه بتجهيز الكفن، وبذلك بكون بعض القياديين قد أصلحوا أمر الآخرة وهذا أفضل وأنفع، ويحسب لهم ما أقنعوا به الشباب من مركزية العمل السلمي العلني والمؤسسي وإن غابوا عن المشهد السياسي.