“الرسالة”.. فيلم “العقّاد” الذي خرج من رحم المعاناة
أكثر الأفلام إثارة للجدل في تاريخ السينما العربية
الجدل الأخير الذي رافق عرض مسلسل عمر، أعاد إلى الأذهان جدلا أكبر كان قد صاحب عملا دراميا حول التاريخ الإسلامي في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، لدرجة أنه تم قتل صحفي أمريكي واحتجاز مجموعة من الرهائن من طرف جماعة إسلامية في واشنطن احتجاجا على تصوير الفيلم، وكادت أن تنفجر أزمة بين الدول العربية، ومنع الفيلم من العرض في دور السينما وعدد من الفضائيات لمجموعة من الدول..
الحديث هنا عن فيلم “الرسالة” لمصطفى العقاد، الذي حفظه المشاهد المغربي من كثرة تكراره على القنوات المغربية والعربية، والذي يعد واحدا من أكثر الأفلام نجاحا في تاريخ السينما العربية على الإطلاق، وكذلك أكثرها إثارة لنقاش عميق تداخلت فيه المؤسسات الدينية والسياسية والاجتماعية، لذلك وضعته المجلة الأمريكية الشهيرة Entertainment weekly في المرتبة 11 كأكثر الأفلام العالمية إثارة للجدل في التاريخ، كما يعد الفيلم العربي الوحيد الذي تم إنجازه في نسختين جمعت ممثلين من 28 بلدا، نسخة بالعربية أداها ممثلون عرب في مقدمتهم عبد الله غيث ومنى واصف، وأخرى بالانجليزية أداها ممثلون أجانب أهمهم أنطوني كوينز، زيادة على أنه مصنف كواحد من أهم أفلام المعارك على المستوى العالمي متفوقا على أفلام أخرى بلغ إنتاجها أرقاما قياسية.
شيوخ السعودية والتحريم القاطع
عشق العقاد للسينما ورغبته في إخراج فيلم تاريخي يروي قصة الإسلام جعلته يقرر الإقدام على مغامرة غير محسوبة العواقب بإعلانه نيته تصوير فيلم حول الرسول الكريم في بدايات الإسلام، كتابة سيناريو الفيلم استمرت سنة كاملة وجمعت نخبة من الكتاب العرب في مقدمتهم توفيق الحكيم ويوسف إدريس إضافة لكاتبين أمريكيين، حيث كان الجميع يقيم في القاهرة ويجتمع كل يوم لإنجاز السيناريو.
ولكي يوضح العقاد عمله أكثر، قرر أن يلتقي بشيوخ السعودية لما لهم من تأثير عقدي على الكثير من المسلمين، لكن تفاجأ بأن هؤلاء، وقبل أن يحرموا تجسيد الصحابة، كانوا يحرمون أصلا فكرة التصوير السينمائي كما يقول في حديث له مع الجزيرة، وحتى عندما استطاع إقناع بعضهم بأن للصورة السينمائية العديد من الفوائد، اشترطوا عليه وضع تلاوة القرآن في مكان الموسيقى التصويرية التي يحرمونها بدورها، ليخرج حانقا من السعودية ويتوجه إلى الأزهر الشريف الذي سمح له بإخراج الفيلم شريطة عدم ظهور لا الرسول الكريم ولا أيا من أسرته، ولا أيا من الصحابة خاصة الخلفاء الراشدين، وهو تقريبا نفس موقف المجلس الشيعي اللبناني.
عندما هددت السعودية بقطع علاقاتها مع المغرب بسبب الفيلم
بحث العقاد عن مكان لتصوير الفيلم، ليهتدي إلى المغرب، وقد تحمس الراحل الحسن الثاني في بداية التصوير، حيث دعم الفيلم ماديا و طلب من الممثلين المغاربة التعاون مع العقاد وسعى إلى توفير الأجواء الملائمة لإنجاز هذا الفيلم الذي كان يصور بنسختيه العربية والإنجليزية في ذات الوقت، غير أن قرار الحسن الثاني بدعم الفيلم لم يعجب السعودية التي رأت فيه خدشا لكبريائها، فأرسل الملك السعودي آنذاك رسالة عاجلة إلى الحسن الثاني يهدده فيها بأن السعودية ستقاطع أشغال مؤتمر القمة الإسلامي بالرباط إن أصر المغرب على دعم الفيلم، فما كان من هذا الأخير إلا أن طلب من طاقم الفيلم البحث عن بلد آخر من أجل إتمام التصوير، بل وتم قطع الكهرباء عن مكيفات التبريد في الفندق وتم وضع أغطية نوم تالفة من أجل إجبار الطاقم على الرحيل في أسرع وقت كما يقول موقع IMDB.
من “محمد رسول الله” إلى “الرسالة”
العلاقة المتوترة بين السعودية ولبيبا آنذاك جعلت العقيد الراحل معمر القذافي يقرر مساعدة العقاد لاستكمال العمل، ليتم تصوير ما تبقى من مشاهد خاصة مشاهد المعارك في الصحراء الليبية وذلك بمساعدة القوات المسلحة الليبية التي ظهرت في معركتي بدر وأحد، ليسدل الستار سنة 1976 و بعد مرور قرابة 12 شهرا من التصوير، على خروج الفيلم إلى القاعات السينمائية بتكلفة إنتاج عامة وصلت ل17 مليون دولار تحمل فيها العقاد الجزء الأكبر.
العرض الأول للفيلم كان بلندن، وهناك قرر العقاد الرجوع إلى المقاعد الخلفية لمشاهدة ردة فعل الجمهور بعد انتهاء الفيلم، لذلك وضع يده على قلبه لكي يرى كيف سيتفاعل المشاهدين مع فيلمه بعد معاناة كبيرة من أجل إنجازه، لتتهلل أساريره بعد عاصفة من التصفيقات تلت نهاية الفيلم، حيث أشاد الجمهور بهذه الرائعة السينمائية، وطلب من العقاد تغيير اسم الفيلم الذي كان “محمد رسول الله” بدعوى أن الملصق قد يوضع في أماكن لا تليق باسم النبي، وهو ما استجاب له العقاد بتغيير اسم الفيلم إلى “الرسالة”.
الفيلم المنبوذ من الأزهر
فوجئ العقاد بعد ذلك برفض الأزهر للفيلم بدعوى تجسيده لشخصية حمزة بن عبد المطلب وهو الذي كان مبشرا بالجنة، لتتخذ مصر قرارا بعدم عرض الفيلم لا على قنواتها ولا في دور السينما الخاصة بها، وهو الموقف الذي بقي ساريا لحدود سنة 2007 حين بثته القناة الأولى المصرية، كما رفضته أغلب الدول العربية آنذاك، ليلين موقفها بعد النجاح المدوي للفيلم في الخارج، حيث استطاعت النسخة الإنجليزية للفيلم أن تحصل لوحدها عشرة أضعاف تكلف, إنتاجه، كما رشح الفيلم للأوسكار، وتلقى الإشادة من جل النقاد السينمائيين العالميين، وتمت ترجمته لأزيد من 12 لغة.
فيلم بدون بطل
إضافة لكونه فيلما خرج من رحم المعاناة، فالعقاد استطاع أن ينجز فيلما وبطله الرئيسي لا يظهر في الشاشة، فلا جسد الرسول الكريم ولا صوته ولا حتى ظله يظهر في الشاشة لمراهنة العقاد على احترام معتقدات المسلمين، كما أن روعة الفيلم تظهر من خلال الحبكة الدرامية التي تميزه والتي لا تجعل المشاهد يحس بالملل رغم أن مدة الفيلم تتجاوز 3 ساعات، إضافة للبحث التاريخي الذي جعل من الفيلم يتعدى بعده السينمائي ويجمع بين التوثيق والدراما بشكل أخاذ.
جمالية الفيلم تظهر كذلك من أداء جميع الممثلين، خاصة الراحل عبد الله غيث والمبدعة منى واصف في النسخة العربية، وكذلك الممثل العالمي أنطوني كوينز في نسخته الإنجليزية، فالأداء كان بسيطا بعيدا عن التصنع، وتقمص الشخصيات بجميع تفاصيلها كان واضحا، إضافة لمحاولة المخرج أن يبتعد عن كثرة الشخصيات في الفيلم والتي قد تشتت انتباه المشاهد كما يحدث حاليا مع مسلسل عمر.
انتقادات تعرض لها الفيلم..
غير أن هذه الإشادة بعمل العقاد لم تخفي مجموعة من الانتقادات، فقد عاب الكثير من الناس على العقاد خوفه الشديد من المؤسسات الدينية وعدم تجسيده لمجموعة من الصحابة الذين كان لهم دورا محوريا في بداية الإسلام خاصة الخلفاء الراشدين، وهو ما أثر على حبكة الفيلم بعد مقتل حمزة حين صار الفيلم يركز على شخصيات ثانوية لم تلعب دورا كبيرا في الأحداث الحقيقية خاصة من جهة المسلمين المهاجرين، وهو مشكل كان العقاد واعيا به، حيث اعترف به في حوار صحفي قائلا بأن الفيلم كان سيكون أفضل لم تم إيجاد شخصية محورية تعوض فيما تبقى من مشاهد بالفيلم شخصية حمزة بعد مقتله في غزوة أحد.
من الانتقادات الأخرى التي رافقت فيلم “الرسالة” هو ما قيل أنه إغراق في إظهار فضائل الإسلام لدرجة أن الفيلم تحول إلى عمل دعوي، بل أن هناك من النقاد من وصفه بالبروباغاندا الإسلامية، خاصة عندما صور قريش بمنظر التخلف والهمجية الشديدة، زيادة على أن غياب أهم الشخصيات المحورية جعل المخرج يستنجد براو للأحداث، مما جعل الفيلم يمزج بين النوع الوثائقي والنوع السينمائي في خروج عن الأعراف السينمائية.
في انتظار “رسالة” جديدة..
ومهما يكن من أمر، ف”الرسالة” نقلة نوعية في تاريخ السينما العربية، وجرأة العقاد في الحديث عن تاريخ الإسلامي كانت سببا في تعريف العديد من سكان المعمور بماهية هذا الدين، بل أن ترجمة الفيلم إلى عدد من لغات العالم عرٌفت مجموعة من الشعوب بسيرة الرسول الكريم، وهو الأمر الذي عجزت عنه الكتب، ولأنه عربي مسلم، فقد كان جزاء العقاد هو القتل في تفجيرات إرهابية هزت العاصمة الأردنية عمان سنة 2005، بعدما كان يعد لفيلمين تاريخيين جديدين يتحدث الأول عن فتح الأندلس والثاني عن سيرة صلاح الدين الأيوبي، ليحرم تنظيم القاعدة العالم من متابعة عملين سينمائيين كان العقاد حريصا على أن يكونا بنفس جودة وتأثير فيلم “الرسالة”، وذلك في وقت يحاول فيه البعض أن يجعل من الإسلام مشجبا يعلق عليه ممارسات بعض المسلمين.